حب القراءة والتعلم لدى الأطفال.. : القدوة أولاً
بديهي
أن تكون القراءة أساسًا للتعلم ووسيلة لتنمية القدرات العقلية المختلفة،
وأكيد أنه بالمزيد من التعلم يتحقق للمرء مضاعفة حجم ما يعلم, فتتسع تبعًا
لذلك مداركه و ينضج فكره، ويصبح في مستوى يتمتع فيه بالقدرة على الملاحظة
الدقيقة الفاحصة والتأمل الواعي العميق والبحث الموضوعي الجاد من أجل تفسير
أسرار الكون و إدراك حقيقة الكائنات، وبالمزيد من الثقافة يواصل الإنسان
طريقه في الحياة إلى أعلى مراتب الإبداع والابتكار.
وما
عليه إلا الأخذ بأسباب القوة وبذل الجهد للتمتع بخيرات الحياة وترقية
حياته لجعلها أكثر نعومة ويسرًا، ولن يتأتى له ذلك إلا بالعلم والعمل، فلا
جدوى من علم لا يتوج بعمل يجسد تطبيقاته في الحياة، ولا نفع يرجى من وراء
عمل لا يقوم على أسس علمية تضمن جودته، وعودًا على بدء ستمثل القراءة أحد
المحاور الرئيسية التي سيشملها هذا الجهد بالإضافة إلى العمل المتواصل
والنشاط الحي والتنظيم الجيد لمراحل العمل.
إن
توجيه صغار الأطفال إلى أهمية القراءة في حياة الإنسان على النحو المذكور
أمر لا يجدي نفعًا ولا يحقق فائدة، إنها عندهم كلمات ليست كالكلمات، وستعد
بالنسبة لهم مجرد طلاسم لأن معانيها تتجاوز حدود فهمهم، كما أن دفع النشء
إلى اكتساب قدرات التحصيل العلمي سيتم عبر منظومة تعليمية نرى تطبيقها في
المدارس مرتبط في الأذهان كأداة لا تتجاوز حدود التعبير عن حجم التحصيل
الدراسي من أجل حصد النقاط واجتياز الاختبارات بنجاح ولا شيء غير ذلك، وفي
ذلك نكاد لا نلمس أي متعة يمكن الاستناد إليها في تبرير تشجيعنا المتواصل
للأطفال لحب القراءة لأن لا شيء يثير النشوة في نفوسهم أو يحرك فضولهم
للمعرفة، ومع علمنا الراسخ بحقيقة الأمر فإننا لا نكف عن ملاحقتهم المستمرة
والصراخ ليل نهار إن وجدناهم قليلي الاهتمام بمراجعة دروسهم المدرسية ولا
يبدون توثبًا للنجاح وصبرًا على التحصيل الجاد، بل نراهم منكودين وهم
يتفننون في سبل التهرب منها بالتمارض والتعب، أو بتصنع رغبة زائفة في تقديم
يد المساعدة للأب أو للأم في عمل ما، أو الانفراد بعيدًا عن الرقابة
لمتابعة برنامج تلفزيوني أو فيلم مشوق، وما يزيد في الأمر سوءًا انتشار
أجهزة الحاسوب والتطبيقات التكنولوجية في عالم الاتصال كالإنترنيت وغيرها
التي تكاد تسلب عقول الأطفال، وتستهلك معظم أوقاتهم وتستنزف جل قدراتهم
الذهنية على حساب تحصيلهم الدراسي. إن هذا الوضع الذي تعرفه معظم الأسر في
عالمنا الحاضر هو نتيجة طبيعية لخطأ سابق جرى ارتكابه دون قصد، وهو إننا
نريد أن ندفع الأطفال نحو التحصيل الدراسي من أجل نيل الشهادة التي على
أساسها سيتحدد نوع المهنة والمستوى الوظيفي ثم درجة الأهمية العملية في
المؤسسة، ثم المرتبة في السلم الاجتماعي ودرجة المستوى المعيشي، كل ذلك
منطقي ولا سبيل لنكرانه.. ولكننا نغفل في نفس الوقت أهمية أن نغرس في
نفوسهم الرغبة في ذلك مبكرًا، لأن خلق القدرة على عمل ما يجب أن تسبقه
منطقيًا الرغبة في إنجاز هذا العمل، وهذه الرغبة تتشكل بصفة تلقائية بمجرد
رسوخ قناعة أكيدة بجدوى ما نعمل وبعظيم فائدته، وعندما ننتقل إلى عالم
الطفل فإن الأمر يتعلق أولا بالتساؤلات التالية : ماذا يقرأ..؟ ولماذا
يقرأ؟ ولمن يقرأ ويتعلم ..؟
لاشك
أن الفئة العمرية للطفل هي التي ستحدد نوعية ومستوى ما سيقرأ، ففي الفئات
العمرية الصغرى ستلعب المشوقات من صور جذابة وألوان مبهرة وطباعة واضحة
على أوراق فاخرة عناصر ضرورية لشد الانتباه ولضمان استمرار تعلق الطفل
بالنص المقروء الذي ينبغي أن يكون موضوعه مختارًا بعناية، أي يحترم عقلية
الطفل في وقتنا الحاضر. وتجب الإشارة هنا إلى أن أطفال الكمبيوتر والإنترنت
والمواقع الإلكترونية والفيسبوك والهواتف النقالة المتطورة والقنوات
الفضائية سيقهقهون عاليًا ساخرين من الحكايات الخرافية وأساطير الجدات مثل
«الغولـة» والعفاريت .. إلخ من القصص التي لا تقدم و لا تؤخر في حجم معارف
الأطفال، ولا تؤثر في بعث اهتمامهم وحماستهم سواء نحو المزيد من القراءة
الإيجابية أو المطالعة الحرة، وأستثني منها تلك القصص ذات الهدف التربوي
التي تخلق في النفوس قيمًا إنسانية سامية وتبعث الحس الجمالي وتنشط في نفس
الوقت المخيلة بالصور الجميلة، بالإضافة إلى كم المعلومات المقدمة في النص
بشكل سلس وبطريقة غير مباشرة لا تبعث على الملل. إذن يمكن أن نخلص إلى
حقيقة أراها أساسية وهامة وهي أنه قبل أن نوجه أوامرنا للطفل الصغير لكي
يقبل على العلم علينا أولا أن نقدم له ما يحفزه لذلك منذ نعومة أظافره لكي
يحدث التعود منذ الصغر، علينا أن ندرك أن هناك فرقًا كبيرًا بين «التعليم»
الذي يعني بكل بساطة تقديم المعلومات الجاهزة بطريقة التلقين الجاف الخالي
من أي متعة في عملية التحصيل، وبين «التعلم» الذي يعني بحث الطفل بنفسه
عن المعلومات للوصول إلى الحقيقة ، ويكون انطلاق الطفل في البحث على أساس
وجود إشكالية معينة ترتبط بمصلحة مباشرة لفائدته سيكون من الخطأ تجاهلها أو
تقليل شأنها، ولذلك ينبغي أن نجد لها حلاً، ثم استثارة الأذهان إلى أن هذا
الحل المنشود هو أيضا مفتاح لحل مسائل حيوية أخرى، إما متشابهة أو
متزامنة أو تالية عليها ينبغي توضيحها بطريقة منهجية بسيطة يتقبلها عقل
الطفل. وهذه هي الطريقة المثلى لكسب المعرفة،
ومن
أبرز فضائلها غرس روح البحث الذاتي وتنمية الفضول العلمي لديه لمعرفة
أسرار الظواهر الطبيعية المحيطة ببيئته وما يتبعها من نقاش وتبادل للآراء
العلمية، ثم تعقب الأسباب وملاحظة التأثيرات المتبادلة بينها في جو من
النقاش العلمي المثري المفيد في تشكيل شخصية الطفل وتنمية زاده اللغوي
بالمفردات العلمية، بما يسمح بطرح المزيد من الأفكار، وفي ذلك فرصة لخلق
روح الفريق والعمل العلمي الجماعي المشترك عن طريق تشكيل مجموعات عمل تختص
كل منها بجزء من العمل الكبير، وهذا بدوره عامل مهم في تنمية الحوار
الديمقراطي الهادف في السلوك المتعلق بالتواصل بين الأطفال بعيدًا عن الجدل
العقيم لأن الأمر يتعلق بالبحث عن حقائق موضوعية ثابتة، وهذه الروح هي
التي ستفرض نفسها على اعتقاد الطفل في كبره كشرط لترقية حياته ومواصلته
تلمس سبل العيش في ظروف أفضل يسودها التمتع بمهارة الاستماع إلى آراء
الآخرين، وتقبل الاختلاف في الرأي لأن الحسم في النهاية سيتحقق بالحقائق
العلمية ولا غير. وهذا الاعتبار في حد ذاته تعظيم لقيمة العلم في حياة
الإنسان وتثمين لدوره في بناء الحضارة، ومن ثمة يعتبر تطبيقًا عمليًا للأمر
الإلهي الذي جاء في مستهل سورة العلق: }اقــرأ باسم ربك الذي خلق
..{ وبناء عليه سيتأكد للجميع أن الجهد الجماعي المشترك والمنصهر في إطار
العمل التنموي الوطني، هو محصلة جهود أفراد آمنوا بالعلم الواعي سبيلاً
والعمل المثمر وسيلة من أجل التطور في كل المجالات.
لن
يكون بالوسع تمرير توجيهاتنا ومواعظنا إلى الأطفال ما لم نكن قدوة لهم،
فالمحيط الأسري الذي يقدس العلم ويوفر الظروف المناسبة لذلك، ويحث دائمًا
على اكتساب المعرفة هو مناخ مناسب تمامًا للطفل لتحقيق النجاح الدراسي، ولا
علاقة بين وجود أبوين جاهلين وبين حدوث تخلف دراسي بالضرورة لدى الأبناء،
والعبرة من خلال المشاهدات هي قناعة الأبوين بقيمة العلم لأنها ستكون كافية
لدفع الأطفال إلى مسار دراسي ناجح، وهذه المفارقة نجدها أيضًا عند بعض
الأزواج المتعلمين فشل أبناؤهم دراسيًا لأنهم لم يكونوا يومًا قدوة لهم،
والمعنى أن هؤلاء الآباء قد انصرفوا عن أبنائهم وسعوا بكل جهد لتسخير ما
علموا من أجل جمع المال فقط. والذي حدث أن توهم الأبناء أن الحياة كلها كسب
مال وحسب، فغلب في اعتقادهم ضرورة اختصار الطريق، بالشروع في أعمال
طفيلية قد تدر عليهم ربحًا لبعض الوقت ولكن لا شيء يضمن استمراره كل
الوقت، ولن يجدوا بالتالي في تضحيتهم بمستقبلهم الدراسي أي غرابة، خاصة في
الدول التي تعرف شعوبها أزمات اقتصادية واجتماعية، فغالبًا ما يصاحبها
تدهور في سلم القيم يصل إلى حد تسويف العلم وتسفيه المتعلمين لأن المنطق
السائد حينها هو غلبة المال على كل شيء. ومثل هؤلاء سيكون من الصعب عليهم
تقبل النصح من الآخرين للتراجع عن أفكارهم،
وقد
يحدث أن يجد الأبناء في أشخاص من خارج أسرتهم وعائلتهم الكبيرة قدوة لهم
سواء في الخير أو في الشر، وذلك نتيجة غياب تأثير الآباء عليهم وقلة
إشرافهم المباشر على شؤونهم وندرة وجودهم وسطهم، وفي مثل هذه الحالات، حين
ينظر الأبناء إليهم نظرة الغرباء فلن يكون مستغربًا ألا نجد في نفوسهم أي
صدى لما يقولون، لأن القدوة قد تم أخذها من خارج المحيط الأسري في غفلة من
الوالدين. الحديث عن القدوة لدى الأطفال هو حديث عن نقش لا تمحوه الأيام،
والأهم أنه سيكون المتحكم في سلوكهم مستقبلاً، إما إيجابًا أو سلبًا،
وبالنتيجة ربما أمكن تشكيل فلذات الأكباد بغير توجيه مباشر من الأسرة،
ويمكن حينها أن تفتخر بهم إن هم نجحوا، ولكن كم سيكون قاسيًا على النفس
والقلب أن يروهم يخسرون حياتهم.
مواضيع ومقالات مشابهة