الجودة في التعليم.. الطريق نحو العالمية
لم
تعد الجودة في عالمنا اليوم شعارًا للاستهلاك الإعلامي أو ترفًا إداريًا
يتغنى به القادة التنفيذيون للمنشآت، بل أضحت مطلبًا ضروريًا لكل منشأة
ودولة تطمح لتحقيق العالمية في الأداء والمنافسة في عالم يموج بالمتغيرات
الحديثة والمتسارعة، عالم أصبحت المعلومة والمعرفة متوفرة لكل فرد فيه
كالماء والهواء مما زاد من صعوبة أرضاء وتلبية رغبات المستفيدين المطلعين
على كل جديد في مختلف نواحي الحياة.
الجودة
بكل معانيها ومفاهيمها وتطبيقاتها تدور وتتمحور حول تلبية وتحقيق متطلبات
العميل أو المستفيد، كما سنسميه هنا في هذا المقال، فالجودة في أبسط
معانيها تعني مطابقة المنتج او الخدمة للمواصفات التي تم تحديدها لتلبية
احتياجات المستفيدين، وهي تعني كذلك خلو المنتج أو الخدمة من العيوب،
فيتحقق بذلك رضا المستفيد، كما تعني الجودة أن تقوم المنشأة بالعمل الصحيح
الذي يحقق القيمة المضافة للمستفيدين وبالطريقة الصحيحة التي تقلل الفاقد
وإعادة العمل وتوفر الوقت والتكاليف، وتبسط الإجراءات وتقلص الروتين، وأن
يتم ذلك من أول مرة وفي كل مرة يحصل فيها المستفيد على المنتج أو الخدمة من
المنشأة.
وبعد
هذه المقدمة عن الجودة يأتي السؤال: هل قطاع التعليم في معزل عن هذه
المسيرة العالمية والزخم الدولي حول الجودة وتطبيقاتها المختلفة؟ بالتأكيد
فإن الإجابة «لا»، فالتعليم في قلب المعادلة، وهو المحور الأساس لتقدم
الأمم أو تخلفها، لذا فإن تحقيق الجودة في التعليم مطلب وطني وهدف تسعى
الأمم وتتسابق لتحقيقه إدراكًا منها أن جودة العملية التعليمية بمفهومها
الشامل تعني جودة المخرجات التعليمية، ومن أهمها تخريج الأجيال الشابة التي
سيكون على عاتقها مسئولية عظيمة في تحقيق أهداف وخطط الدولة المستقبلية
وتعزيز قدراتها على النمو والتقدم والمنافسة في مضمار السباق نحو العالمية.
جائزة الملك عبد العزيز للجودة
لقد
جاءت رؤية خادم الحرمين الشريفين للجودة الوطنية والتي أطلقها حفظه الله
في المؤتمر الوطني الثالث للجودة 1432 هـ «المملكة العربية السعودية
بمنتجاتها وخدماتها معيارًا عالميًا للجودة والإتقان في عام 2020 م» لتكون
بمثابة البوصلة التي ستقود وتوحد كافة الجهود المبذولة حاليًا في مجال
الجودة والتميز بمختلف قطاعات الأعمال ببلادنا الغالية، وهنا فلابد أن يكون
قطاع التعليم في مقدمة القطاعات التي ستساهم في ترجمة وتحقيق هذه الرؤية
الطموحة والوصول بمنتجات وخدمات بلادنا إلى المستوى العالمي لتتمكن من
المنافسة وتعزز اقتصادنا الوطني ومكانة المملكة الإقليمية والدولية كأكبر
مصدر للطاقة في العالم وواحد من أكبر 20 اقتصادًا في العالم اليوم، إضافة
إلى الشرف العظيم لهذه البلاد والمتمثل في خدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما
من الحجاج والمعتمرين والزائرين.
وفي
هذا السياق، ولأن الحاجة ماسة لوجود نموذج وطني للجودة والتميز يكون
بمثابة المسار والمنهج للوصول إلى المستوى العالمي في الأداء، فقد جاءت
جائزة الملك عبدالعزيز للجودة لتحقيق هذا الغرض، وكانت البداية في قطاعات
الإنتاج والخدمات، ثم تواصلت المسيرة الميمونة لهذه الجهود المباركة ليقترب
موعد انضمام قطاع التعليم العام إلى منظومة الجائزة وبمعايير عالمية
المستوى تم تطويرها وأعدادها لتحقق مفاهيم الجودة الشاملة والتميز المؤسسي
في قطاع التعليم، فلن تتحقق الجودة الشاملة في التعليم إلا من خلال تحقيق
النظرة الشمولية للمدرسة ومن منظور مؤسسي، فعلى سبيل المثال يشمل معيار
القيادة الإدارية للمدرسة التحقق من مدى قدرتها على تحديد قيم المؤسسة
التعليمية وتوجهاتها على المدى القريب والبعيد ونشرها، وكذلك وضع وتنفيذ
الخطط والسياسات التعليمية ومدى التمكين وتفويض الصلاحيات وتوفر المهارات
القيادية، وكذلك قدرة الفريق القيادي على وضع وقياس ومراجعة الأداء المؤسسي
للمدرسة وعمل الإجراءات التصحيحية اللازمة مع تعزيز ونشر ثقافة الجودة
والتميز بالمدرسة، وتحقيق مفهوم القدوة الحسنة للمعلمين والطلاب على حد
سواء، وبهذه الخطوة الموفقة تكون المملكة العربية السعودية قد حذت حذو
الدول المتقدمة في عالمنا اليوم، وسبقت الكثير من دول منطقة الشرق الأوسط
في هذا المضمار، والتي أولت موضوع الجودة في التعليم العام اهتمامًا خاصًا
فعلى سبيل المثال لا الحصر أدرجت الولايات المتحدة الأمريكية قطاع التعليم
ضمن فئات جائزتها الوطنية للجودة وأصبحت المدارس والجامعات تتبارى وتتنافس
في سبيل الحصول على الجائزة الأولى للجودة بالبلاد مما سبب حراكًا إيجابيًا
ساهم في تعزيز وتحقيق مفاهيم الجودة والتميز بقطاع التعليم ومؤسساته
المختلفة.
الجودة الشاملة
إن
تحقيق مفهوم الجودة الشاملة في التعليم يتطلب وبكل بساطة أن يشمل ذلك كافة
أركان العملية التعليمية، والتي تشمل الطالب، وهو المستفيد الأول الذي يجب
أن يكون محور اهتمام ورعاية المؤسسة التعليمية، وأن يشارك في صياغة
المناهج وتصميم الآليات المناسبة لتقديم وتنفيذ العملية التعليمية، كما
يمثل المعلم ودون أدنى شك ركنًا هامًا في العملية التعليمية وجودتها، والتي
يتطلب تحقيقها اهتمامًا خاصًا بعمليات اختيار وتدريب وتأهيل المعلمين
وتحفيزهم والاستماع إلى اقتراحاتهم، وتوفير البيئة المدرسية الملائمة ليبدع
ويبتكر في أساليب التعليم وتوصيل المعلومة ونقل المعرفة إلى الطلاب، ويحبب
إليهم العلم والمدرسة، والنجاح في إقناعهم بالدور والمسئولية الهامة التي
تنتظرهم في مستقبل حياتهم العملية، كما ينطبق كل هذا الاهتمام على بقية
أركان العملية التعليمية مثل المناهج التعليمية والمرافق الدراسية والإدارة
أو القيادة المدرسية وغيرها.
لقد
سمعنا الكثير من الأمثلة التي نتعجب منها مقارنة بما نراه في مدارسنا
ومؤسساتنا التعليمية، ولعل من أبرز ما يتم تداوله حول التقدم والتطور
والاهتمام الكبير الذي توليه اليابان دولة وشعبًا بالتعليم هو الاهتمام
الكبير والتقدير العظيم الذي يحظى به معلم المرحلة الابتدائية هناك إدراكًا
للدور والمسئولية الملقاة على عاتقة، كما أن من التقاليد الاجتماعية
الرائعة في اليابان حضور الآباء أو الأمهات أو الجد أو الجدة للمدرسة بدلاً
من الطالب الابن في حال تغيبه لعذر قاهر حتى لا ينقطع الطالب عن التحصيل
العلمي، كما يكفينا أن نعلم أن من أشد العقوبات التي قد ينزلها المعلم
بالطالب في حال تقصيره هو حرمانه من الحضور للمدرسة في اليوم التالي، ويظل
الطالب يترجى ويستجدي معلمه حتى يسمح له بالحضور!
كل هذا لأن مفهوم الجودة الشاملة إذا تحقق أصبحت المدرسة بيئة جاذبة
ومحببة للتعليم يسعد ويبدع الطالب والمعلم فيها، ولن يتحقق مفهوم الجودة في
التعليم حتى يكون أول أيام المدرسة من أسعد وأجمل أيام الطالب، ويكون آخر
أيام المدرسة يوم فراق حزين لمكان تعلق به الطالب وأحبه.
كما
لا يفوتني أن أعرج هنا على موضوع هام للغاية، ويعتبر الأساس وبمثابة
البنية التحتية لتحقيق الجودة في التعليم ألا وهو التربية وتعليم الطلاب
وتدريبهم واكتسابهم للقيم الأخلاقية الفاضلة والتي يحث عليها ديننا الحنيف،
فلن يتعلم المرء حتى يتواضع لمعلمه ويقدم له أسمى مشاعر التقدير
والاحترام، كما يتطلب ذلك تحقيق مفهوم القدوة الحسنة من المعلمين لطلابهم
ونشر مفاهيم وقيم العمل الجماعي والصبر والنفس الطويل والتفكر والإنصات
وآداب الحوار وغيرها من القيم والأخلاق الحميدة.
وانطلاقًا
من الدور الكبير الذي يقوم به المجلس السعودي للجودة في نشر ثقافة الجودة
وتطبيقاتها الحديثة بين قطاعات وأفراد المجتمع فقد بادر المجلس إلى إطلاق
وتبني مشروع «خريطة الطريق للجودة الوطنية» وتشمل هذه الخريطة 7 مراحل
أساسية يمكن تنفيذها بالتوازي أو بالتوالي في بعض المراحل، والطموح أن تكون
ضمن خطة عمل وطنية يشارك الجميع في تنفيذها،
وتتلخص مراحل الخريطة على النحو التالي:
- مرحلة التوعية بأهمية الجودة والحاجة إليها.
- إنشاء وتأسيس مجالس وجمعيات ولجان ومراكز الجودة الوطنية.
- الحصول على دعم والتزام القيادات العليا وأصحاب القرار.
- إطلاق سياسات واستراتيجيات للجودة على المستوى الوطني.
- تأصيل مفاهيم الجودة في المراحل التعليمية المبكرة.
- إيجاد فرص للتدريب والتعليم والبحث العلمي في مجال الجودة الشاملة.
- إطلاق جوائز وبرامج الجودة والتميز المؤسسي الوطنية.
ويمكن
أن نرى هنا وبوضوح الدور الهام للتعليم في تحقيق هذه الخريطة نحو تحقيق
الجودة على المستوى الوطني حيث سيكون لقطاع التعليم دور أساسي ومحوري في
نشر ثقافة الجودة والتوعية بأهميتها والحاجة إليها نظرًا للقاعدة العريضة
والشريحة الكبيرة من المجتمع التي يضمها أو تتأثر وتتفاعل مع قطاع التعليم،
وكذلك المسئولية الكبيرة والهامة المناطة بقطاع التعليم في تحقيق المرحلة
الخامسة والمتمثلة في تأصيل مفاهيم الجودة في المراحل التعليمية المبكرة،
وكما يقول المثل المشهور «العلم في الصغر كالنقش في الحجر» ومن هذا المنطلق
تركز هذه المرحلة من خريطة الطريق على تربية وتوعية النشء والأجيال
القادمة على مفاهيم ومعاني الجودة الشاملة وغرسها في أذهانهم منذ المراحل
المبكرة من التعليم وربطها بالقيم المحلية والتعاليم الدينية مما سيسهل
مهمة التحاقهم مستقبلاً في ركب المسيرة الوطنية نحو الجودة والتميز، ويتطلب
ذلك تصميم مقررات أو محتوى محدد داخل المقررات المدرسية ضمن مناهج
التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي توضح وتشرح مفاهيم وتعاريف الجودة
والعمل الجماعي ومهارات التواصل وحل المشكلات والاهتمام بالعميل وغيرها من
المفاهيم الأساسية للجودة وبأسلوب مبسط ومحبب للطلاب مع تمارين عملية
وتطبيقية قدر الإمكان، كما يمكن أن تشمل هذه المرحلة تنظيم زيارات ميدانية
لطلاب المرحلة الثانوية إلى المصانع والشركات التي يوجد لديها تطبيقات
للجودة والتميز المؤسسي.
كما
تضمنت خريطة الطريق في مرحلتها السادسة الحاجة إلى إيجاد فرص للتدريب
والتعليم والبحث العلمي في مجال الجودة الشاملة حيث تفتقر الكثير من دول
المنطقة إلى وجود جامعات وكليات ومعاهد للتدريب في مجال الجودة الشاملة
والتميز المؤسسي، والتي يمثل وجودها رافدًا قويًا لدعم مسيرة الجودة
الوطنية وتأهيل المتخصصين في هذا المجال وتوطين هذه المعرفة والخبرات
ونقلها إلى اللغة العربية لأن التاريخ أثبت أنه لم تسد أمة من الأمم بغير
لغتها الأم، ولذا تطالب هذه المرحلة من خريطة الطريق بكل ذلك بالإضافة إلى
الاهتمام وتشجيع البحث العلمي والتطبيقي في مجال الجودة والتميز، وأن تبادر
الدول إلى إنشاء مراكز أبحاث وكراسي علمية في هذا المجال ودعمها من قبل
القطاعات العامة والخاصة ورجال الأعمال ونشر هذه الأبحاث وتأليف الكتب
المتخصصة وتشجيع البعثات الدراسية لدول العالم المتقدمة لطلاب الدراسات
العليا وتطوير برامج وطنية للاعتماد للمتخصصين في مجال الجودة من أخصائيين
ومدراء وغير ذلك من البرامج والدورات المتخصصة في هذا المجال.
كما
تضمنت الخريطة وانطلاقًا من مبدأ التحفيز والتقدير للعاملين والمساهمين في
تحقيق المسيرة الوطنية للجودة والتميز المؤسسي مطالبة الدول بإطلاق جوائز
وبرامج وطنية للجودة والتميز المؤسسي، هدفها التحفيز وغايتها التميز، ولاشك
أن المتابعين في هذا المجال لمسوا الدور الكبير والأثر الإيجابي الذي
ساهمت به جوائز الجودة والتميز الوطنية في مختلف دول العالم في الارتقاء
بجودة المنتجات والخدمات المحلية وتحقيق التميز في الأداء المؤسسي وتشجيع
العاملين من خلال إدراج فئات متنوعة بهذه البرامج، والجوائز تشمل التفوق
الوظيفي والمشاريع المتميزة، كما أن من أهم الثمار الإيجابية لهذه الجوائز
هي التقارير الراجعة لنتائج التقييم المؤسسي والتي تمثل خطة عمل شاملة
للتطوير والتحسين المستمر لكافة جوانب العمل المؤسسي للمنظمات والقطاعات
المستهدفة في جوائز الجودة والتميز الوطنية، ومن هنا تأتي أهمية إدراج قطاع
التعليم العام في فئات جائزة الملك عبدالعزيز للجودة، وهي خطوة ومبادرة
إيجابية تشكر عليها وزارة التربية والتعليم وكذلك الهيئة السعودية
للمواصفات والمقاييس والجودة بصفتها الجهة الراعية للجائزة.
وخاتمة
القول إننا وكمختصين ومهتمين في مجال الجودة والتميز ببلادنا الغالية نقدر
ونثمن كثيرًا الجهود الكبيرة والمخلصة التي تبذلها وزارة التربية والتعليم
ممثلة في الإدارات العامة للتربية والتعليم بكافة مناطق المملكة في سبيل
نشر ثقافة الجودة والتميز في هذا القطاع الحيوي، ونعول كثيرًا على الدور
الهام الذي ستلعبه الجائزة الوطنية للجودة «جائزة الملك عبدالعزيز للجودة»
في دفع وتعزيز هذه المسيرة المباركة وتحفيز المدارس والمناطق التعليمية
للمنافسة الشريفة والإيجابية في سبيل تبني مفاهيم الجودة والتميز وتطبيق
معايير الجائزة وتبني وتبادل أفضل الممارسات التي يتضمنها النموذج العلمي
للجائزة.
بقلم : د . عايض العمري
مواضيع ومقالات مشابهة