يتعلق الأطفال في وقت مبكر بالخرافة وأجوائها الساحرة ، وعادة ما تكون المرأة هي الراوي الأساسي لهذا النوع القصصي .
وقد يستمر وَلَع الأطفال بها في بعض البيئات البدوية ، إلى أن يبلغوا
مرحلة الشباب ، حينما تنتقل سهرات السمر من البيت إلى الحي ، وتنتقل
الرواية أيضاً إلى واحد منهم ، وهذا الوَلَع بالخرافة مَردّه إلى استجابتهم
للنزعة التخيلية لديهم ، التي تحقق لهم الرغبة في انفلات من حدود الزمان
والمكان .
فالأحداث تَنفَلِت من الزمن المباشر الصريح ، لتدور في عالم الممكن
المطلق ، وهو عادة قديم الزمان ، سالف العصر والأوان ، وتشغل حَيّزاً
مكانياً غير محدود ، هو بلد من بلاد الله ، وبهذا الاستهلال السحري تلغي
الخرافة كل قيود الزمان والمكان ، وتشكل نوعاً تعبيرياً ملائماً للأطفال .
إذ يتداخل الحلم والواقع عندهم تداخلاً يزيل كل الفواصل بينهما ، حيث
يمكِّنهم خيالهم من أن يزوروا الأماكن البعيدة ، والممالك القديمة ،
ويكونوا هنا وهنالك في اللحظة ذاتها .
وتتميز الخرافة عن الأشكال السردية الأخرى بغلبة الخوارق على نسيجها
القصصي ، التي تكيِّف طبيعة الشخصيات فيها ، وتتحكم في سير أحداثها ، إذ
تفقد الحركة القصصية تطورها الطبيعي بعد أعمال غيبية ، كالجن ، والعفاريت ،
والطلاسم ، لتغير فجأة مسار الأحداث نحو اليسر أو العسر ، بحسب طبيعة تلك
القوى وغايتها .
وهي بذلك قد تعمل على تعطيل انتزاع الأزمة - بمعنيَيْها القصصي والنفسي
- ، أو تعجل بِحلِّها ربما قبل الأوان ، لذلك كانت منذ القديم أداة
تعليمية ، مساعدة في تربية الأطفال .
الخرافة بين الموافق والمعارض :
رأى بعض الدارسين أن للخرافة بُعداً أساسياً في الحضارة ، وإن توظيفها
في تأهيل الأطفال وإعدادهم - لكي يكونوا عناصر فاعلة في إطار الجماعة التي
ينتمون إليها - أمر لا يخفى على أحد .
خاصة تلك الخرافات التي تروى في نطاق الأسرة ، والتي تتوجه أساساً إلى
تربية الطفل ، وتنمية خياله وقدراته ، الذهنية والوجدانية ، حين تقدم له
نماذج من السلوك الإنساني ، فتكون أداة للمعرفة في تشكل تصوراته عن الكون ،
والمحيط الاجتماعي الذي يحيا فيه ، ورغم هذا الدور التعليمي التربوي
المنوط بالخرافة ، فإنَّ من الدارسين من يعترض على استخدامها في أدب
الأطفال .
بل يعترض على كل الأنماط الحِكائية التي تستخدم الخيال الواسع والوسائل
السحرية ، والتي ترتكز على ارتحال الأبطال إلى عالم المجهول ، عالم
الأرواح ، والشياطين ، والأشباح ، دون الاهتمام بتفاوت هذه الأنماط في
تصويرها لهذا العالم ، وعلاقته بالعالم الواقعي .
وتستند هذه النظرة إلى القول : إنَّ هذا العالم الخرافي أو الأسطوري من
شأنه إبعاد الطفل عن معرفة ذاته ، وتغريبه عن محيطه ، وكيفية التعامل معه ،
وتقديم حلول جاهزة للمشاكل العويصة التي تتطلَّب نِضالاً مريراً في بعض
الأحيان ، لذلك نرى بعضهم ينادي بِعَقْلَنَة ما يقدَّم للطفل في هذا المجال
، ومراعاة الفئات العُمْريَّة التي توجه لها هذا النوع من القصص .
ويعود هذا الموقف الداعي إلى إسقاط الخرافة من أدب الطفل إلى نظرة بعض
علماء الأنثروبولوجيا ( علم الأجناس البشرية ) ، الذين استندوا إلى نظرة
تطورية ، ترى بأن الأسطورة تختص بزمنٍ تاريخي معين ، كان فيه العقل
الإنساني بدائياً ، ولا يمكن أن تبقى حيَّة في العصر الحديث ، الذي يسيطر
عليه العلم سيطرة تكاد تكون مطلقة .
لكنَّ دراسات أخرى رفضت هذا التقسيم الحادّ لتطور العقل الإنساني ،
فالإنسان - كما ترى - يلجأ إلى القُوى الغَيبيَّة ، المتمثِّلة في الأساطير
، في أية مرحلة من مراحل تطوّره ، كلما واجهته صعوبات لا يستطيع السيطرة
عليها أو تفهمها .
واتجهت دراسات أخرى إلى نفي التعارض بين الأسطورة والعلم ، لأنَّ
كُلاًّ منهما يعمل في مجال خاص به ، ويُلبِّي حاجات مختلفة في النفس
الإنسانية ، ونجد كذلك لدى بعض علماء التربية ما يبدد مخاوف هؤلاء الدارسين
من استخدام الخرافة في الأدب الطفولي .
فيقول و. د. وول في كتابه ( التربية البنَّاءة للأطفال ) - الذي تولَّت
منظمة اليونسكو نشره لأهميته - : ( إذا كان الكبار أنفسهم في حاجة بين
الحين والآخر إلى أن يذهبوا مع تيَّار أوهامهم ، وأن يختلقوا حكايات ،
ويبتدعوا خيالات ، فإن الطفل يهتم بقدر ما يكبر بالسببية ، وإن دور التربية
هو تسهيل التفكير العلمي بخصوص الأسباب ، دون القضاء على الإبداع الحر ،
وعلى الخيال ) .
بل إنه يرى في استخدام الخرافة في أدب الأطفال مسألة صحية ، فيقول : (
يتَّصل اهتمام الطفل بالقصص الخرافية بحاجته إلى إعطاء شكل درامي للمشاكل
التي تعترضه ، ولإبداعات خياله ، فالعديد من عناصر الفلكلور ( الفن الشعبي )
ومن القصص الخرافية بما في ذلك المشاهد العنيفة ، تتطابق مع عالم الطفل
الباطني ، ويمكن لهذا الأخير أن يتقمص بسهولة مختلف مظاهر الحكاية ) .
مصادر الخرافة في قصص الأطفال :
إن جزءاً من التراث الشعبي مشترك ، ومتداول في مختلف البيئات العربية ، بحكم الظروف الفكرية الواحدة ، والتجانس الجغرافي .
وإن كان يصعب على الباحث أحياناً أن يحدِّد بدقة تاريخ تنقل أنماطه في
هذا البلد أو ذاك ، والدوافع التي تقف وراء ذلك ، والسبل التي سلكتها ،
ومنها : المَغازي ، وقصص الأنبياء ( عليهم السلام ) ، والزهاد ، والأساطير ،
والخرافات ، ولا شك أن بعضه انتقل عن طريق الرواية ، وأن أكثره وصل عن
طريق مدوَّنات ذات طابع تاريخي أو أدبي ، مثل : المَغازي ، التي ما زالت
رائجة في بعض البيئات الشعبية .
وتروي وقائع الفتوحات الإسلامية بعد أن أشاعها القصَّاصون والرواة ،
معتمدين على أعمال قصصية متأخرة ، أخذت مادتها من كتب السِّيَر والمَغازي ،
التي ظهرت نماذج منها في زمن مبكر - القرن الأول الهجري - ، وحوت ما كان
متداولاً مشافهة عن الفتوحات الإسلامية .
والخرافة من بين هذه الأنماط القصصية التي أخذت صياغتها في اللهجة
المحلية ، وخضعت أثناء تداولها إلى التعديل في بنائها بما يناسب البيئة
الاجتماعية ، وتبدو بعض هذه الخرافات العربية متماثلة ، لا تختلف إلا في
بعض الجزئيات ، نتيجة ظروف كل بيئة ، وتقادم الزمن ، وتعدد الرواة .
ولهذا فكاتب الأطفال في هذا البلد أو ذاك ، يستقي مادته من نفس المصادر
التي يستقي منها الكاتب الذي يقطن المساحة الجغرافية ، أو اللغوية ، أو
الدينية ذاتها بشكل عام .
إن الالتفات إلى التراث أمر إيجابي بلا شك ، فهو من المكوِّنات
الأساسية في بناء الحضارة الإنسانية ، ووسيلة مُهمَّة لتحصين الشخصية
الفردية في مواجهة أي غزو ثقافي ، أو إعلامي ، قد يُفقِد الطفلَ ثِقتَه
بنفسه ، أو مجتمعه .
لكن صياغة حكاية خرافيةٍ ما للأطفال تقتضي تجنيب الطفل كل ما لا يتلاءم
مع مستواه الإدراكي ، والنفسي ، والاجتماعي ، وكل ما لا يتلاءم مع مفاهيم
التربية الحديثة ، غير أن بعض القصَّاصين لم يتنبهوا إلى هذا الأمر ،
فجاروا منطق الحكايات بدل تشذيبها وتطويعها ، ولم يضعوا في اعتبارهم أن
فيها جوانب إيجابية وأخرى سلبية .
ومن المظاهر السلبية : العنف الشديد ، وغير ذلك من القصص التي حوَت
مضامين هابطة بالقيم الاجتماعية ، ولا نجد فيها ما يوحي بتحقير تلك الأفعال
أو إدانتها .
غير أنَّ كُتَّاباً آخرين عمدوا إلى تهذيب هذه الحكايات ، مما فيها من
مواقف عنيفة ، وقسوة شديدة ، أو علاقات شاذة ، منافية للأخلاق والدين ،
فاختلفت بذلك تفاصيل الحكاية الواحدة من كاتب لآخر ، وهنا تبرز مَهارة
القصَّاص في الملائمة ما بين عناصر الحكاية ، ومعالجة ما قد يترتب عن تلك
التعديلات والإسقاطات ، من فجوات وتفكك يَمسّ بُنْيَة الحكاية .
ومثل هذا الجهد الإبداعي يُبرز التفاعل الحرّ بين قدرات الكاتب الذهنية
، وأحاسيسه الجمالية مع التراث ، كأن يضيف شخصيات جديدة إلى القصة الأصلية
، ويتخلَّص من مشاهد العنف ، ويلائم الأحداث للأبعاد التربوية والتعليمية .
الشخصيات الخرافية في قصص الأطفال :
تقوم القصة الخرافية عادة على مفهوم الصراع بين الخير والشر ، بين
أشخاص عاديِّين ، ومخلوقات عجيبة ، من الجن ، والعفاريت ، والغيلان ،
والوحوش ، وغيرها ، وهي كائنات كثيراً ما تتشابه في أوصافها وسلوكها في
النص الأصلي ، والنص المقتبس للأطفال ، فهي تتميَّز بالشكل المخيف ، والقوة
الهائلة .
غير أن هذه الكائنات الضارية قد يكفيها الخيال المبدع لتغدو في بعض
القصص وديعة ، طيبة ، تخدم الناس وتُحسِن إليهم ، وهي بِمَلْمَحَيْهَا -
الخير والشر - تحافظ على ذات السمات التي أُثِرت عنها في المصادر القديمة .
فقد لزمت الكائنات الخرافية الذهنية العربية قبل الإسلام ، وتسلَّطت
عليها تسلُّطاً مهولاً ، وشكَّلت مادة خصبة دارت حولها الأساطير العربية ،
وقد لعب الوصف والسرد القصصي - بلا شك - دوراً مهماً فيما وصل إلينا عن
تشكّل أوصاف هذه الكائنات إلى جانب ما أمْلَتْه الشروح والتأويلات المختلفة
لها ، وما زالت هذه الكائنات إلى اليوم موضوعاً شَيِّقاً تنسج حوله حكايات
كثيرة في المجتمعات .
وامتدَّ ذلك إلى ما يُقدَّم للأطفال من قصص تُسلِّيهم وتُبهِجهم ،
وتزوِّدهم بأدوات معرفية تساعدهم على التخلص مما قد يعترضهم من مواقف
مُحرِجة في مستقبل أيامهم .
وإن ممّا تركِّز عليه قصص الأطفال التي أبطالها الغول والجن والعفريت -
كما في الخرافات - على جدليَّة القوَّة والحيلة ، فالكائنات الضعيفة تجدُ
مخرجَها - مما يحيطها من مخاطر وشرور تسببها كائنات ترمز إلى الظلم والتسلط
- بالاعتماد على الذكاء ، وبذل الجهد الصادق ، وهو ما يريح نفسية الطفل ،
ويوحي له بقدرة الإنسان .
وقد تتلون هذه الكائنات التي تشكل هذا العالم الخرافي ، فتتحوَّل إلى
قوَّة كامنة في أدوات سحرية ، مانِحة للخير والأمل ، والمَغزَى التربوي
المتوخَّى من ذلك كله ، هو الإشادة بالقِيَم الإيجابية ، والمكافأة على
التمسك بها ، وفي الوقت نفسه التنفير من القِيَم السلبية .
ليست هناك تعليقات