حميش ينتقد "غلبة الحفظ والدفتر" في التعليم بالمغرب
وتطرق حميش، في مقال توصلت به هسبريس، إلى ظاهرة تردي القراءة والتحصيل، والتي قال إن "فشوها وفداحتها تعبر عنها بلاغة الأرقام وحجيتها في سوق الكتاب من كل الأصناف، وفي مختلف الحقول والمواد"، قبل أن يناقش ما سماه "بروز ظاهرة الريعيين الثقافيين".
وهذا نص مقال بنسالم حميش كما ورد إلى الجريدة:
والتدهور الثقافي أيضا
كلمة cultura اللاتنية الأصل، مشتقة من فعل colere، أي حرثَ، اعتنى، رعى، حافظ، أو بكلمة جامعة استثمر ونمّى، وكلها أفعال تحيل إلى فلاحة الأرض agricultura، وتنسحب على فكر الإنسان ووجدانه تماهيا وتماثلاً. أما في لسان العرب لابن منظور، فالأصل من «ثقِف الشيء ثقافة: حذقه حذقاً وظفر به. ويقال رجل تَقِفٌ وثَقْفٌ: حاذقٌ فهِمٌ»، وبذا تكون الثقافة رديفاً لاكتساب الفطنة والمهارات، مما يقربها من معنى pedeia في اليونانية القديمة التي لم تكن لها إذذاك كلمة أخرى للدلالة على الثقافة، في حين أنها تسمى اليوم بوليتسموس، القريبة من تسميتها في اللغة الأزيرية: "مدنيات".
الثقافة، بكلمات جامعة ومن حيث المبدأ والمثال، هي أحد معايير التقدم ورافعة من بين رافعات التنمية البشرية، حيث الغايات المتوخاة هي التنافسية المبتكرة، وترقية الأذواق واللغات وحياة اليسر للأفراد والجماعات، حياة أفضلَ وأجمل، مخلصة من مسلكيات تبخيس الذات أو الضجر منها، وهما عنصران مرضيان يفسدان النوابض الإبداعية ويسيئان إلى مواقف التفاؤل والإرادية. وهنا في هذه المقومات وما يجانسها تكمن الأفعال القوية لربح رهانات النمو النوعي والانتفاع بخيرات المدنية والحداثة وخدماتها، أي رهانات الثقافة التنموية المطّردة. هذا التوصيف الموجز للثقافة لا يصح إذن إلا من حيث المثال والمبدأ، لكن يحسن، كما تقدم، استحضاره لقياس واقع الثقافة وتمظهراته العينية والمحسوسة، ومن هذا الباب ها ما يمكن كشف الغطاء عنه وإقراراه:
من وجوه التدهور
من حيث القاعدة العامة، الثقافة كالاقتصاد لا تنتعش سوقها وعروضها إلا بقوة الطلب وتطوره؛ أما إذا أصيب هذا السوق بالبوار والكساد، فإن الثقافة تَضمُر وظائفها، وعلى رأسها وظيفة أجرأة فعلها كرافعة بالمواصفات المذكورة أعلاه. وهذا الوضع حين يصبح واقعا، فمن خلال مؤشرات ملموسة قابلة للمعاينة والتحقيق في إطار التيار الصلب أو الأغلب، نذكر منها:
منظومة تعليمية مأزومة
وأزمتها، كما نرصد ونعلم، هي أم الأزمات من حيث إنها تمس قطاعا هو بمثابة عصب التنمية ونخاعها الشوكي، إذ لا تنحصر في الحاضر وحده، بل تقبض على ناصية المستقبل المنظور وترهنه، وتؤثر سلبا على وضع الثقافة ووظائفها، وعلى مجتمع المعرفة المنشود ذاته. ومن مؤشرات ذلك في الشق الذي يعنينا هنا حصريا: غلبة "ثقافة" الدفتر والحفظ عن ظهر قلب لمضامين المقررات، من دون حرص على تجنب طرائق الاختزال والإدغام والبتر، ولا مراعاة شروط الفهم والمجادلة بالاعتماد على أمهات المراجع وكتب التيسير. وهذا واقع ممض يقر به جمهرة المدرسين عن تجربة ومعاينة. وهؤلاء لو قرأت عليهم ملاحظة بذلك المعنى لابن خلدون عن طلبة عصره لقالوا جميعا بجدتها وراهنيتها، وهي: «فنجد طلبة العلم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون، عنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة». ويترتب على هذا الوضع في المحصلة تخريج أفواج تلو أخرى من ضيقي الصدور والرؤى، ومن ذوي العلاقات السطحية بالثقافة والإنسانيات، والميالين إلى الانطواء على الزاد المعرفي الزهيد الأدنى، وبالتالي إلى اتخاذ مواقف الدوغمائية المتشنجة من قضايا الفكر والسياسة وأمور الحياة والدين، التي لا يطيق حملها وتدبيرها إلا أهل الدراية والمعرفة الواسعة...
وتبعا لذلك فإن نظام التعليم العمومي الذي تُرصد له الدولة أضخم ميزانياتها بمئات ملايير درهم، بات يمنح شهادات تضاءلت في الغالب عبر السنين قيمتها في سوق التوظيف والشغل، فأمسى وضع جامعاتنا بكل تخصصاتها تقريبا يشكل أبلغ تعبير تركيبي عن صعوبة تلك الحالة المستفحلة عاما تلو آخر، ساهم في تكريسها وترسيخها مسؤولون متعاقبون وأطر تدريس مقصِّرون متهاونون، وأيضا الطلبة المستسهلون والانتهازيون. فأضحينا أمام معضلة صلبةِ النشأة، معقدةِ المفاصلِ والخيوطِ، متناسلةِ الآثار والعواقب: فلا القطاع الخاص يقبل توظيف المتخرجين، ولا هؤلاء يبغون بديلا عن القطاع العمومي لكونه في ظنهم الأضمنَ والأريح، ولا الوظيفة العمومية المكتظة تستطيع ماليا استيعاب أفواجهم المتكاثرة سنويا. وهكذا فإن معضلة التعليم إن استمرت على هذه الحال من التفاقم والدوران في حلقات فاسدة، فستهدد مستقبل التنمية نفسها ورهاناتها، وتجعل مغرب الغد ومرافقه العمومية بين أيادٍ قاصرة وسواعد منكسرة، فيُحدث ذلك اطرادا في نزوح أفواج من الكفاءات إلى البلدان الغربية أو استفرادَ القطاع الخاص بما يكفيه منها.
إن المغرب المستقل جرّب عبر حكوماته ومجالسه العليا المتعاقبة كل الأوراق والخيارات، الحزبية منها والتقنوقراطية، جرب المغرب ذلك واختبر، إلا أن أم الأزمات ما زالت تراوح مكانها بل تسوء، ولا شيء في الأفق يشير إلى ما قد يخفف من وطأتها وتصاعدها. وقد أقر مؤخرا الوزير رشيد بلمختار (التقنوقراطي) نفسه بفشل منظومتنا التعليمية على إثر تقرير لمنظمة التعاون الاقتصاد والتنمية يضع المغرب في مرتبة متدنية (73 من بين 76 دولة)، وذلك بناء على مقياس الجودة ونتائج التحصيل المدرسي، وقد مسَّ حتى مواد العلوم والرياضيات. فهل نكبّر أربعا على تعليمنا؟ وهل ينفع في تدبير الأزمة إعلان حالة الطوارئ أكثر مما حصل في "الخطة الوطنية للتنمية البشرية" أو في "البرنامج الإستعجالي" المنصرمة عهدته؛ أم هل تنفع الزيادة في خوصصة القطاع (ولو ضدا على العدالة الطبقية ومن دون ضمان حصول الإنقاذ؛ أم هل يحسن تحويل وزارة التربية والتعليم كليةً إلى وزارة سيادة تأخذ على كاهلها الشأن التعليمي كيما تكون فيه اليد الطولى من باب التقرير وإنجاز الإصلاح الضروري؟
ظاهرة تردي القراءة والتحصيل، ولا يختلف على واقعها المتتبعون والمهتمون، من مؤلفين وطابعين وموزعين وباعة. ظاهرة تعبر عن فشوها وفداحتها بلاغة الأرقام وحجيتها في سوق الكتاب من كل الأصناف وفي مختلف الحقول والمواد، حتى إن حملات التحسيس التي قد تنظمها موسميا وفي مناسبات وزارات وبعض المؤسسات والجهات لتبدو هي وشعاراتها "عشق القراءة"، "خذ الكتاب بقوة" وسوى ذلك، عبارة عن صيحات في واد بلا مردودية ولا تأثير. إن تلك الظاهرة باتت إذن معطى بنيويا متناميا ينخر المشهد التعليمي والثقافي، ويستدعي دراسات ميدانية وتحليلية، نطَّلع على بعضها بين الفينة والأخرى في منابر صحافية، أو في تقارير مخصوصة، كالتي صدرت منذ مدة عن الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي FADES، فتصعق بكشوفها ونتائجها أو تقابل بموقف الاستخفاف واللامبالاة. وذريعة بعض من يتبنى هذا الموقف الثاني هي أننا دخلنا زمن ما بعد المكتوب والكتاب، أي زمن الوسائطيات المتعددة من السمعي-البصري والرقمي وتكنولوجيات التواصل المتطورة. وإن كان فضل هذه الوسائطيات لا ينكر في مجال تحصيل المعلومات وتداولها في وقت سريع قياسي، فإننا لا نتثقف بها ولا ننمي الملكات من ذكاء وخيال وذاكرة وحساسية، والتي في نطاقاتها لا تعويل إلا على الكتاب، ولا غنى عنه ولا بديل. وبناء على هذا الثابت المؤسس للثقافات الإنسانية عبر كل العصور والأمكنة، لا بد لنا اليوم من أن نضع قيد التأمل والبحث مجمل العواقب المأساوية التي تتمخض عنها أزمة القراءة وتهدد على نحو سرطاني قنوات التلقين والتواصل وأنسجة الثقافة والمعرفة.
ظواهر سلبية أخرى
والسؤال الذي يتوجب الآن طرحه ومقاربة الأجوبة الممكنة عنه، نظرا لمحوريته وبروزه كمحك اختباري توضع عليه مثالية الثقافة ووظائفها، هو: إذا كانت هذه الثقافة من إحدى رافعات التنمية، فأين وكيف هم الرافعون؟
إن مضاعفات سوء الوضع التعليمي والتحصيلي، المرتدة سلبا على الثقافة عموما، كثيرةٌ متنوعة، يمكن رصد بعضها لماما كالتالي:
- تضاؤل الأنشطة الثقافية وأعداد المقبلين عليها، حتى في الحواضر الكبرى، وذلك باعتراف الفاعلين الجمعويين الذين يعترفون أنه لولا دعوم الدولة والسلطات المحلية لحلوا جمعياتهم وأوقفوا أنشطتهم. ويشهد على واقع هذا التضاؤل تناقص فضاءات ثقافية من مكتبات وقاعات سينما ومسرح وتحولـها إلى مقاهي ومحلات تجارية. هذا علاوة على تقلص حيز الثقافة في الإعلام الورقي والسمعي البصري، وذلك لحساب الرياضة والسياسة وشتى منوعات الإثارة والترفيه.
- بروز ظاهرة الريعيين الثقافيين (وأغلبهم فاشلون ثقافيا)، يمشون في ركاب الثقافة ويرترقون منها، تراهم لا يرضون عن السلطة الوصية على قطاعها حتى تدفع لهم من الدعوم ما يبغون؛ أما إذا توخى حامل الحقيبة ترشيد النفقات وإنجاز ما لا بد منه في شق الإصلاح، بعد مشاورة خبراء ونصحاء ثقات، فإن أصحاب المواقع والمصالح ومحترفي الريع والإبتزاز سرعان ما ينتفضون، فيجهزون عليه بالأكاذيب المغرضة وبمساءات القذف البالغة العنف والشناعة، شاهرين ثم مطبقين خيار المقاطعات والوقفات، بل يذهب بعضهم إلى مطالبة الدوائر العليا بمخاطب جديد. وقد ذهب الشاعر الفرنكوفوني العرائضي اللعبي إلى حث السلطات على إقالة كاتب هذه السطور، جريا على هذياناته المعتادة، وباحثا عن تصفية حسابات ذاتية خسيسة، مردها سخطه على موقفي النقدي من الفرنكوفونية كنظام هيمنيّ وتتبيعي.
- ظهور صنف من المثقفين الشبكيين، وهم من مسخري الوسائطيات والعلاقات العامة وحتى وسائل السياسة الخفية والعنف الرمزي، وكلها تفضي بأغلبهم إلى أسواق مقايضة المبادئ والقيم بأنشطة التربّح والبهرجة، فيكثر في دوائرهم الإمعيون والإنتهازيون، متعبدو اللغة الخشبية ومسالك الانضباط السياسي (political correctness). ويتوفرون على دفاتر عناوين مفيدة وشبكة علاقات مصلحية ناجعة، كما يبرعون في تقنيات الدفع والترويج الذاتين، وتبادل الخدمات لقاء قضاء المآرب والحاجات. ونحن، مبدئيا لا ننكر عليهم كل هذا، وإن كان يحسن التأففُ فيه والتعفف، لكن أن يغالوا في التعويل عليه مع ضعف البضاعة والموهبة، فهذا ما نراه حالئذ سلوكا عائبا وممارسة ممجوجة.
ولو كان الحيز يسمح لاسترسلت في عرض وجوه أخرى للتدهور الثقافي (كاعتزال أهم مثقفينا المطبق واستماتتهم فيه) تتمثل في اختلالات وخروقات من صنف ما لا يحل ولا يصح السكوت والإمساك عن مباشرته ومحاولة علاجه. خروقات واختلالات ما كان لي أن أعاينها وأخبرها لو لم أقض فترة، كانت وجيزة، على رأس قطاع الثقافة المصاب أكثر من غيره بالعوز المالي وبآفات الأذرع المشلولة والموظفين الأشباح، هذا علاوة على أرهاط الريعيين المشار إليهم أعلاه.
ختاما، أمام الشأن الثقافي وسواه من الشؤون الحساسة الخطرة، يظل الفساد الثقافي واللغوي عند شرائح عريضة من مثقفينا غير منظور ولا مفكر فيه بما يلزم من اليقظة والجدية. ولسنا ندري حتّام يسترسل سباتهم المديد، وما السبيل إلى تحريك سواكنهم وضمائرهم، كيما يكفوا عن صراعاتهم الصغيرة ويلتزموا بإعادة ترسيخ ثقافة القيم والأساسيات وشيوعها.
السبت 23 ماي 2015 - 04:00
مواضيع ومقالات مشابهة